"يلا بسرعة هاتي الشنط و هننزل من السلم ده عشان ننزل عند العربية
بالظبط", "مش فارقة كتير قال يعني الشوية دول هيفرقوا", "شيلي
من هنا حطي هنا"، و ما هو إلا موجه و مرشد، نزلا السلم المختار و جلسا على
المقعد المختار، و وضعوا الحقائب في المكان المختار، "لو يسكت شوية اوامر
اوامر...اوف بقى، صبرني يا رب"، "هروح اشرب قهوة هنا على م ييجي
القطر"، أخيرا سيصمت، تحمد الله في بضع الدقائق أو الساعات التي تقضيها دونه،
"روح يا أنيس" ، ذهب و تركها، حدقت في السماء التي تنبؤ بالمطر، و لكن
ما هذا الضجيج؟، هل هي تمطر و لا تراها؟ هل وصل القطار؟...
"بعد اذنك يا أبلة ممكن تشيليني دي" , قطع خلوتها صوت ملائكي
صغير، و لكن بقدر براءته يحمل من الهموم اثقالا، تنظر فتجد فتاة صغيرة و نحيلة،
منحوتة ملامحها ، بالكاد تفتح عينيها من التعب، "اشيلك ايه يا حبيبتي؟"
، تشير الفتاة إلى ذلك الطبق الكبير الذي يضم ما يبدو أنه يساعدها على كسب قوت
يومها، "البتاو ده، بس بالراحة ليتكسر و ابويا يموتني" , نظرت إليها
كأنها تفحصها جلبابها الصغير المرقع، ضفيراتاها المتدليتان على صدرها الذي لم تتضح
له معالم بعد، "انتي منين يا حبيبتي و بتعملي ايه هنا؟" و بلكنتها التي
وضحت معالم الريف في نبرات صوتها "أنا من كفر الشيخ، وجيت مصر مع أبويا، اصل
بجيب حاجات لجهازي، و هو بيسترزق هنا في القطر"، صدمتها كلمة
"جهازي" فسألتها محاولة إنكار ما طرق على ذهنها "جهاز ايه يا
حبيبتي؟" و جاءت الكلمات بنفس سرعة القطار القادم من بعيد و كانت واضحة رغم
صوته المزعج، "حاجة جوازي يا أبلة؟ أبويا هيجوزني عوضين", خال لها للحظة
ان الضوضاء تهيئ لأذنيها معلومات مغلوطة، و لكنها متأكدة أنها سمعت ما قالته
الفتاة، "أنتي أسمك إيه يا حبيبتي"، "نحمده" ، "عندك كام
سنة" ، "عندي 13 و ماشية اهو في ال 14، مش هتشيليني البتاو بقى يا أبلة
عايزة أشوف أبويا فين؟" ، تنظر إلى عينيها التي يغلب عليها النوم و هي
تقاومه، ربما الشئ الوحيد الذي تقاومه، و لكنها تفكر "هو انتي ناقصة هشيلك
ايه يا بنتي و لا ايه، ده انتي شايلة جبال و لا دريانة".
ساعدت تلك الصغيرة على حمل ما لا
تطيقه براءتها المفقودة، تعجبت من نفسها فهي لم تتذمر من اقتحام تلك الصغيرة
الدقائق القليلة التي تقضيها دون "أنيس" و أوامره، هل كان الامر مختلفا،
أم ان الوجع مشتركا؟ لا حقت الفتاة بعينيها، يتمايل جسدها الصغير، تختال بحملها
سائلة و إذ بأبيها ينقض عليها "كنتي فين يا نحمده، مشيلاني كل ده يا به هو
شواري و لا شوارك"، لم يفكر لحظة قبل وضع الحمل الذي في يده في أيدي نحمده،
"امسكي ياختي مش هتتجوزي لوحدك"، يجرها من كتفيها فالقطار قادم، مجرورة
و مجبورة، تقول في نفسها "يكون في عونها و تتحمل بدل عوض واحد عوضين"،
وقف القطار و اختفت نحمده في الداخل، كأنها كانت سراب، لم تلمح منها شئ، خبط أنيس
على كتفها "مش تناديني يا هانم هو القطر مش جه"، نظرت إليه و كأنها
تتفحص ملامحه للمرة الأولى، يرجها رجا من كتفيها "انتي متنحة كدة ليه، يلا
القطر هيمشي"، أعادت النظر إلى غيوم السماء ثانية، و لكنها تمطر الأن، تشعر بندى القطرات على
يديها..."انا مش مسافرة معاك يا أنيس" قالتها في قوة لم يتوقعها، قوة
غطت على ضوضاء القطار و المحطة، "انتي اتجننتي..."، يزلزلها برجة كتفيها
ثانية، "فوقي..."، و لكنها بالفعل فاقت فلا داعي لما يفعله، "أنيس
أنا مش هتجوز عوض اتفضل دبلته اهي مش عايزة فرحة بلاستيك، مش مسافرة" ،كان
القرار واضح و صريح، نظر إليها متعجبا، أول مرة ترفض ما يختاره، و لكن عوض سدد
ديون أخيها أنيس مهرا لها، "يلا يا هدى القطر هيمشي بلاش دلع"، و لكنها
لا تتدلع" هو يقهم جيدا ان كلامها يحمل من الجدية ما لم يراه منها من قبل،
"الحقه انت لو عايز"، تركته و استدارت و مشت عكس اتجاه القطار، و مشى
القطار أيضا، و ظل أنيس ينتظر في مكانه ، كانت المرة الأولى التي ينتظر فيها دون
أن يقرر أو يختار...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق