السبت، 23 أبريل 2016

المحطة



"يلا بسرعة هاتي الشنط و هننزل من السلم ده عشان ننزل عند العربية بالظبط", "مش فارقة كتير قال يعني الشوية دول هيفرقوا", "شيلي من هنا حطي هنا"، و ما هو إلا موجه و مرشد، نزلا السلم المختار و جلسا على المقعد المختار، و وضعوا الحقائب في المكان المختار، "لو يسكت شوية اوامر اوامر...اوف بقى، صبرني يا رب"، "هروح اشرب قهوة هنا على م ييجي القطر"، أخيرا سيصمت، تحمد الله في بضع الدقائق أو الساعات التي تقضيها دونه، "روح يا أنيس" ، ذهب و تركها، حدقت في السماء التي تنبؤ بالمطر، و لكن ما هذا الضجيج؟، هل هي تمطر و لا تراها؟ هل وصل القطار؟...
"بعد اذنك يا أبلة ممكن تشيليني دي" , قطع خلوتها صوت ملائكي صغير، و لكن بقدر براءته يحمل من الهموم اثقالا، تنظر فتجد فتاة صغيرة و نحيلة، منحوتة ملامحها ، بالكاد تفتح عينيها من التعب، "اشيلك ايه يا حبيبتي؟" ، تشير الفتاة إلى ذلك الطبق الكبير الذي يضم ما يبدو أنه يساعدها على كسب قوت يومها، "البتاو ده، بس بالراحة ليتكسر و ابويا يموتني" , نظرت إليها كأنها تفحصها جلبابها الصغير المرقع، ضفيراتاها المتدليتان على صدرها الذي لم تتضح له معالم بعد، "انتي منين يا حبيبتي و بتعملي ايه هنا؟" و بلكنتها التي وضحت معالم الريف في نبرات صوتها "أنا من كفر الشيخ، وجيت مصر مع أبويا، اصل بجيب حاجات لجهازي، و هو بيسترزق هنا في القطر"، صدمتها كلمة "جهازي" فسألتها محاولة إنكار ما طرق على ذهنها "جهاز ايه يا حبيبتي؟" و جاءت الكلمات بنفس سرعة القطار القادم من بعيد و كانت واضحة رغم صوته المزعج، "حاجة جوازي يا أبلة؟ أبويا هيجوزني عوضين", خال لها للحظة ان الضوضاء تهيئ لأذنيها معلومات مغلوطة، و لكنها متأكدة أنها سمعت ما قالته الفتاة، "أنتي أسمك إيه يا حبيبتي"، "نحمده" ، "عندك كام سنة" ، "عندي 13 و ماشية اهو في ال 14، مش هتشيليني البتاو بقى يا أبلة عايزة أشوف أبويا فين؟" ، تنظر إلى عينيها التي يغلب عليها النوم و هي تقاومه، ربما الشئ الوحيد الذي تقاومه، و لكنها تفكر "هو انتي ناقصة هشيلك ايه يا بنتي و لا ايه، ده انتي شايلة جبال و لا دريانة".
 ساعدت تلك الصغيرة على حمل ما لا تطيقه براءتها المفقودة، تعجبت من نفسها فهي لم تتذمر من اقتحام تلك الصغيرة الدقائق القليلة التي تقضيها دون "أنيس" و أوامره، هل كان الامر مختلفا، أم ان الوجع مشتركا؟ لا حقت الفتاة بعينيها، يتمايل جسدها الصغير، تختال بحملها سائلة و إذ بأبيها ينقض عليها "كنتي فين يا نحمده، مشيلاني كل ده يا به هو شواري و لا شوارك"، لم يفكر لحظة قبل وضع الحمل الذي في يده في أيدي نحمده، "امسكي ياختي مش هتتجوزي لوحدك"، يجرها من كتفيها فالقطار قادم، مجرورة و مجبورة، تقول في نفسها "يكون في عونها و تتحمل بدل عوض واحد عوضين"، وقف القطار و اختفت نحمده في الداخل، كأنها كانت سراب، لم تلمح منها شئ، خبط أنيس على كتفها "مش تناديني يا هانم هو القطر مش جه"، نظرت إليه و كأنها تتفحص ملامحه للمرة الأولى، يرجها رجا من كتفيها "انتي متنحة كدة ليه، يلا القطر هيمشي"،  أعادت النظر إلى غيوم السماء ثانية، و لكنها تمطر الأن، تشعر بندى القطرات على يديها..."انا مش مسافرة معاك يا أنيس" قالتها في قوة لم يتوقعها، قوة غطت على ضوضاء القطار و المحطة، "انتي اتجننتي..."، يزلزلها برجة كتفيها ثانية، "فوقي..."، و لكنها بالفعل فاقت فلا داعي لما يفعله، "أنيس أنا مش هتجوز عوض اتفضل دبلته اهي مش عايزة فرحة بلاستيك، مش مسافرة" ،كان القرار واضح و صريح، نظر إليها متعجبا، أول مرة ترفض ما يختاره، و لكن عوض سدد ديون أخيها أنيس مهرا لها، "يلا يا هدى القطر هيمشي بلاش دلع"، و لكنها لا تتدلع" هو يقهم جيدا ان كلامها يحمل من الجدية ما لم يراه منها من قبل، "الحقه انت لو عايز"، تركته و استدارت و مشت عكس اتجاه القطار، و مشى القطار أيضا، و ظل أنيس ينتظر في مكانه ، كانت المرة الأولى التي ينتظر فيها دون أن يقرر أو يختار...

فتارين




"انتي فين يا بنتي مش شيفاكي"، تلتف حولها بحثا عن صديقتها في المول، "انا جوة في الكافيه اهو"، دخلت إلى المقهى، و تعجبت لما لا تتذكر في كل مرة ان هذا الزجاج لا يوضح لمن في الخارج من يجلس بالداخل، لعلها تعودت على زجاج الفتارين الشفاف، "كل مرة عبيطة بتشاور لك من جوة و هبلة مش شيفاها من برة...ههههههههه مش هنبطلها على فكرة اصل احنا اتعودنا"...
احتضنا بعض و تبادلا كلمات الشوق ثم جلستا و طلبا مشروبهما المفضل "2 موكا لو سمحت"، "وش تقيل و كريمة و صوص كراميل"، لا تفرق من يطلبه قبل الاخر، تبادلا أطراف الحديث، "يا بنتي هي هتفضل كدة عادي يعني"، اعتادت على ردها فهي ستظل كما هي، قليلة الكلام و لكنه ممتع، "اشربي اشربي" يستمتعا سويا بحبات السكر البني الذي يرشاه على سطح الوجه السميك و لا يقلبا، تسألها ثانية "أيوة بس ليه كدة، بيلمعوا على الفاضي، طفي النور و هتلاقيهم يع يعني" ، "يلا عشان ألحق اشتري الفستان طيب"، نطلب الحساب و نغادر متجهين إلى فتارين السواريه، "قيسي ده طيب" ...واحدا تلو الأخر، ذلك يحتاج تعديلات و هذا لا يليق و الاسود جميل و لكنه قاتم...تلفت نظرهما فترينة الكاجوال، "بصي ده حلو اوي"، ينظرا إليها ثم يتطلعا ضاحكتان إلى بعضهما...
يكملا المشي، يمران بين ذلك الزجاج الشفاف، فتارين فتارين فتارين ، "عارفة ان الفتارين دي بقى بيتعرض فيها ناس"، تنظر إليها متعجبة، "الموكا عملت شغل عالي و لا إيه"، "بصي ده", تشير إلى ذلك الفستان الفضي الذي أخذتها لمعته، يدخلا لتجربه، "بيلمع اوي مش انتي، ممكن يلبسه اللي بيتعرضوا في الفتارين"، تضحكا بصوت عال، جعل الفتيات في المحل يتعجبن منهما...يرن هاتفها فإذ هي أمها "انتي فين يا هانم اخلصي عشان كدة كدة هتروحي الفرح سواء جبتي فستان أو مجبتيش"، "حاضر أنا في المول اهو"، تغيرت تعابير وجهها بعد المكالمة، فسألتها صديقتها و لكنها لم تجب

خرجا من المحل، و قالت لها "مش هجيب سواريه اصلا"، تعتقد أنها محقة، فالفرح أيضا فترينة من نوع خاص، لسلع لم تخلق لتكون سلعا، أتخيل الفرح دائما كقاعة من الزجاج الذي لا يكشف لمن بخارجه ما يحدث بداخله، و لكن كل من بداخله يرون بعضهم بوضوح و تجلي، "ايييييه سرحتي في ايه؟"، تجيب بالنفي فتسحبها من يديها إلى فاترينة الكاجوال الأولى، "بصي عشان نجيب من الاخر، الكاجوال واضح و صريح" ، "طيب يلا بينا "، جرتها من يدها و دخلوا المحل، قصدت هذه المرة ان تختار نمطا مختلفا عما ترتديه دائما، اختارت تلك الألوان النهارية، حيث القميص الكتان الأبيض و قصدت فوقه ذلك "الفيست" بنقوشه الشرقية حيث النخيل العالي و الشمس بينه ساعة الغروب، و أكملت الصورة بذلك البنطال المرقع الذي تثق جيدا أن أمها لن تسمح لها بالذهاب به إلى الفرحة حيث أنه لا يحقق صورة السلعة المرغوبة في فاترينة العرض و الطلب، دفعت الحساب ثم دخلت إلى الكوافير، طلبت هذه المرة من مصفف شعرها تلك القصة الغريبة التي عرضها عليها مرة و لم تقبلها، قصته و صبغته بدرجة جديدة من اللون الكستنائي، ودعت صديقتها و ذهبت إلى البيت بعد الاتصال العاشر تقريبا من أمها...فوعدت والدتها انها ستلحق بها إلى قاعة الفرح...
دخلت البيت مسرعة إلى غرفتها، بدلت ملابسها بذلك الطاقم الكاجوال الجديد، و صففت شعرها لتظهر قصته الجديدة، و مسحت طلاء أظافرها، و لبست خواتم فضية بطابع شرقي غريب، و نظرت لنفسها في المراة راضية و اتجهت إلى الفرح، تلك الفترينة الواسعة التي تنتظرها، أخذت نفسا عميقا و دخلت بهدوء، و في حالة من الجدل الذي تتوقعه انجذبت نحوها العيون و تبارت الألسن في التعليق على شكلها غير المألوف، لفتت الكلمات نظر أمها فنظرت إلى تلك الفتاة التي أصبحت حديث الجميع لتجدها ابنتها، فهبت غاضبة و مؤنبة...و قابلتها هي بابتسامة عريضة تنم عن رضا لتلك الفترينة التي اجبرت على التواجد فيها ....و لكن كما تحب أن تكون ...فقط كما هي و ليس سلعة.

السبت، 26 مارس 2016

سا عات لما بسرح أو اغمض عينيا شوية (سواء تعب او ارهاق او تأمل) دماغي بتدور في دواير عكسية بمعني: اني بحاول اتفرج ع الدنيا بس بمنظور عكسي مش هروب بس ساعات الدنيا لازم تتشاف من حتة تانية ...بس لما برجع افتح عيني بحس و ألمس الدواير و أرتبهم و أحاول أحطهم في برواز الدنيا...و دايرة ورا دايرة بتترسم و تتلون و جايز ييجي يوم و الحلم اللي شيلاه و طايرة بيه يتحقق


قبل النوم:
تأملات من زمن فات....رجعت لورا 10 سنين كدة لما كنت بقف علي شباكي و أتفرج ع الدنيا .... ساعتها كنت بقول لماما هو أنا شباكي ضيق ليه ...الاقيها بتقول لي كل ما تكبري شوية شباكك على الدنيا هيكبر ... مفهمتش اوي ... و رغم ان بعد كدة لقيت شباكي بيكبر و يوسع كل يوم ...ساعات بحن لشباكي الصغير كنت بشوف منه اللي انا عيزاه بس ...دلوقتي شبابيكنا مفتوحة علي دنيا مكشوفة ...ناشفة و برد ...غمضت عيني و خدت نفس عمييييق كدة ... لقيت الشمس طلعت بدفاها ... أكيد شباكنا الصغير وحشنا ... بس لو فكرنا شوية أكيد في حاجة تفرح


تتضطر أحيانا إلى إغلاق الدائرة، و تصبح معه فقط، يطل عليها من تلك السماء بعيدا و يقترب بابتهالات و ارتجالات، يمد يده و يلتقط دعواتها، و يفتح عليها الدائرة مرة اخرى، فتستبدل تلك الصقيع بدفء العين التي لا تنام، و تدور و تعود، تحتفي بتلك الدائرة التي تبوح فيها ابتهالا، تنصت إلى ردود الحارس في عيون محبيها فتكتشف ان الاحتفاء لا يكفي ما تراه في تلك العيون ...

في دايرة الرحلة

كثيرا ما اشعر انه ليس للرحلة نهاية، فهي دائرة تنفتح و تنغلق، و تتشكل مداخلها و مخارجها وفقا لأشياء لا أبالي بمسمياتها، أحيانا اقف على منحدراتها، و كثيرا اندهش لاتساع قطرها، تتراقص عيناي هائمة في سحر الاتساع، و تحلو الرحلة بهذه الفكرة، يتسع العقل فيفتح مجالا للقلب ليتضفر مع صفاء روح من تتسع الدائرة لضمه، و في تلك الدائرة لا تتشكل العلاقات الانسانية فقط ، بل يتسع المجال بتكوين دوائر اخرى حيث تسبح جوارحك كل منهم في دائرة رحلتها الخاصة، و كلما زادت الدوائر اتسع القطر، و زاد الهيام برحلة الفكرة او فكرة الرحلة، فأنا لا أبالي بالمسميات ، فللرحلة دوائر تلتقي و تتفارق
أتوق لطفلة بداخلي، أدللها أحيانا، و في الأخرى أنهرها، أعشق برائتها...أهيم معها في مراسي عالمه الخاص...لا أعلم ان كانت معي في كل وقت و حين أم إنها تزورني فقط حين أفتقدها، و في زيارتها ترد عني بعض المأسى، ترد بلسان ليس بلساني...لا استطيع منعها فربما ردودها أحيانا ترضيني و تكفيني...لا أعلم أعفويتها تكفيني أم أني أريد أيضا مكر خاص لأتغلب على هذا العالم....!!!


الثلاثاء، 22 مارس 2016

في الشروخ

"و في الشروخ حياة لأولي الالباب و في ثنايا الشروخ يلتقي الأحباب" ، سمعتها من جدهاومن سنوات طويلة، حيث اعتادت انها الجملة الختامية لجلساتها معه، لم تفهم الجملة و كثيرا ما سألت على معانيها، و الإجابة دائما ستفهمين وحدك يوما ما، لعل الاجابة هي الشئ الذي زاد حيرتها، و نحت الجملة في ذاكرتها حتى بعد ان رحل صاحبها، كانت تمرن ذاكرتها يوميا كي لا تنساها و كانت تستهل بها كل مفكراتها الجديدة و تقرأ له الفاتحة
ارهقها فراقه رغم انها لم تعاشره الا القليل و لكن ذكريات الطفولة تغلبها دائما، تتذكر جيدا مكتبته الكبيرة ذات الارفف الخشبية التي ظنت يوما انها ستقع من كثرة الكتب، يؤلمها فراقه، و يؤلمها ان ابيها لم يرث عادته بل و اغلق المكتبة على ما فيها من كتب ارهقها التنفس دون جدوى
"زي انهاردة من 20 سنة قال لي اني هبقى زيه، قال اني هبقى الحتة اللي باقية منه، "القهوة فارت يا حنين مالك انهاردة؟!" تحدث نفسها محاولة اكتشاف السبب وراء الذكريات التي تحتاجها اليوم، تحاول ان تبرر بانها مشتاقة اليه، و لكنها تعلم جيدا ان السبب هو تصدع حياتها بشروخ لا تحتسب من اين تأتي، لعله هروب، "تاني مرة تفور مش هعمل تاني هشربها من غير وش" تصب القهوة، و تثير الرائحة شهيتها لكتبه المغلفة بعطره المفضل، و قهوته المفضلة التي كان يتفنن في تحميصها و تحويجها بنفسه
لا تعلم لماذا لم تدخل المكتبة منذ وفاته، لا تعلم ما منعها طيلة العشرين عام، و لكنها في الفجر و كلهم نيام، قررت فتح الباب و زيارته في عالمه الخاص،  نزلت السلالم المؤدية الى الغرفة، فتحت الباب الذي احتضنته خيوط العنكبوت، تتذكر المكان جيدا، هناك درجتان عليها ان تصعدهما و تمد يدها على اليمين فتجد زر الاضاءة، اضاءت الغرفة فانقبض قلبها من لونها الباهت، نظرت الى الارفف التي تحفظها جيدا و لكنها مغطاة بالاتربة، حاولت انوتسترجع رائحته فيها، و لكن دون جدوى، جلست على كرسيه الهزاز، تمرر عينها في الغرفة فتجد لمسته في كل مكان، تجده بين الشقوق، تجده يسكن الثنايا، انها المرة الاولى التي ادركت فيها معنى كلامه، و في الصباح قررت ان تزيل اثر عشرين عاما من على المكتبة، و كتبت على الحائط بالخط الكوفي الذي يعشقه "و في الشروخ حياة لأولي الألباب و و في ثنايا الشروخ يلتقي الأحباب" ، نعم انها تراه الان ...تلك هي بسمته ترسمها الشروخ ...

الجمعة، 18 مارس 2016

علبة شيكولاتة




"مفيش حاجة في الدنيا الشيكولاتة متقدرش تغيرها"، يقلب في مذكراتها، لم يتعود فعل ذلك طيلة حياتها، يحترم خصوصيتها أو يدعي ذلك، و لكنه لا ينكر فضوله أحيانا لمعرفة مكانته عندها و معرفة ما تريده قبل أن تطلبه. يستكمل فيجد نفس السطر متكررا "لما أنا؟ هل فعلا يحبني؟ أم فقط يستمتع معي بعيشة بلا قيود؟"
ذكرته الجملة بأخر لقاء بينهما، عندما وقفت عند الستائر الرمادية التي تخفي ظلام الليل و لا تدع نور النهار، و حينها سألته: "هو أنا إيه بالنسبة لك؟" تنهد طويلا كأنه يحتاج الهواء الموجود بالغرفة كله بل و لا يكفيه، نظر إليها و لم ينطق بكلمة، تعجبت أو توقعت و قالت ساخرة: "يااااااااااااااااااااااه هو السؤال صعب أوي؟" لا يعلم ماذا يقول أو ربما يعلم و لكنه لا يستطع البوع، يقف الكلام في حلقه.
اقتربت منه و ضحكت و قالت "طيب يلا", نظر إليها متعجبا "يلا إيه؟"، انزعج من إشارتها إلى تلك الحجرة المظلمة التي تشهد تحوله خلالها إلى النقيض، غمزة عينيها و إشارتها إلى السرير-المكان الوحيد الذي تظل له صامتة فيه- جعلاه يستشيط غضبا، أو ربما تعرى أمامها بدلا من أن تتعرى هي في ذلك الظلام الدامس، "أنتي اتجننتي؟" ، "لا أنا بس فاهمة أنا إيه بالنسبة لك؟!"
عاد ثانية إلى صفحات مذكراتها التي تطوي أسرار عاشها و لم يعرفها، و في أولى الصفحات وجد خاطرة عنوانها من أنا؟ "أنا ايد ممدودة على طول...فاقدة الأمان و بديه...أنا عاملة زي العربية اللي بتوصله أي مكان هو عايزه...بس أنا بوصله لحالة، إيه يعني هو مش الحالة و المكان واحد؟!"
يتذكر الليلة الأخيرة جيدا ذلك الرداء البنفسجي الذي يعشقه، و هو ينسدل من على جسدها، لمساتها التي تحييه في كل مرة و كأنها امرآة اخرى، تجاعيد جسدها الذي يعلم جيدا أنه هو الوحيد الذي يسكن فيها، ضعفها بين ذراعيه، خضوعها و إلتصاق جسدها بالسرير، لا تقاوم و لا تصل إلى النشوة، يتحكم فيها، يغزو جسدها الذي يعلم جيدا أنه الأول و الأخير في الوصول إليه.
يكمل التصفح في طيات مذكراتها، لم يفهم بعد جملة الشيكولاتة، بل و فاجئته جملة أخرى "كان نفسي أتقوى بالشيكولاتة كان نفسي تغطيني و تحميني زي م بتحضن الكيت كات اللي بيجيبهالي، كان نفسي مبقاش زي البسكويتة في إيديه" ، أذهله التشبيه، فتذكر ضعفها ثانية في كل مرة تريد حلا لعلاقتهما، "كان نفسي الشيكولاتة اللي بيجيبها تغطي اللي كان ناقصني منه"، أدرك حينها أن مع كل علبة شيكولاتة يقدمها لها، يقع من على جسدها الرداء البنفسجي.
نزل كالمجنون إلى السيارة، صرخ صرخة مكتومة حين وجد جواره علبة شيكولاتتها المفضلة، كانت الهدية التي لم تصلها، رن هاتفه، إنها زوجته و لكنه لم يرد في المرة الأولى، فتح علبة الشيكولاتة و تذوقها لأول مرة، رن التليفون ثانية، فرد "أيوة، أنا جاي أهو"، لا يعلم إن كان استسلم للأمر الواقع أم نها صدقت حين قالت "مفيش حاجة في الدنيا الشيكولاتة متقدرش تغيرها"

طائر الشاطئ



رفعت سماعة التليفون، إنه الطلب الأسبوعي ، "فين المقالة يا أستاذنا؟" سؤال يجعلني أختبأ في صومعتي أسبوعيا، أمسكت الورقة و القلم، وجدتني أتساءل ماذا يريد القراء هذا الأسبوع، هل نتحدث سويا عن الحياة عامة، أعتقد أنهم ملوا ذلك، "طير جناحه مكسور" ، ثلاث كلمات ترنحت أمامي على الورقة، لا أعلم لماذا أتيت بالطير و لا ما أعنيه به!
نمت على الورق أو سرحت لا أعلم، فقط وجدتني على شاطئ البحر، وصلتني رائحته قبل أن أراه، و إذ بطائري المجهول مستلقيا على الرمال، حادثته: "ماذا بك؟" أجابني بلكنة مؤلمة "أرهقني هواء البحر"...
فقت و عدت إلى ورقتي و اكتشفت أنني رحت لهذا الطائر الذي يسكن بداخلي بالفعل ، و لكنني للأسف لا أراه إلا وقتما أريد فقط. شخبطت حواري مع الطائر على الورق بحبري الأسود...يرن التليفون ثانية "المقال يا أستاذنا؟"
طائري مكسور جناحه، يمكنني أن أؤجل المقال، خرجت إلى أحفادي و قلت لهم "يلا نلعب"، "هنلعب إيه يا جدو"، "هنلعب استغماية"، فرحوا جميعا، و ذهبوا للإختباء، لم أراهم في الشقة بل وجدتهم يواسون طائري على شاطئ البحر، يتلمسون جناحه...أراهم و لكني لا أستطع الامساك بهم...فقد أرهقني هواء البحر مثل طائر الشاطئ.
                                                                               15فبراير 2016