"هجير"
لم أرى جدتي لأبي، توفيت حين كنت صغيرة، و
لكني رأيت جدي، وجوده كان رمانة الميزان للعائلة، لم يكن لنا لمة شمل دونه، كنت
أعشق لمتنا حوله في الأعياد، كانت طقوسه و عاداته تشع علينا دفئاُ ان كان العيد
شتائاً، و تكون نسيما عليلا في ليالي صيف العيد الحارة، كان يشتري لنا الحلوى و
البالونات، و يقسمها في أكياس بعدد أحفاده، كنا نقف صفاً، ليس كالصفوف التي نقفها
في حياتنا اليوم، إنه ذلك الصف الذي توزع فيه الفرحة و البهجة، لم يكن يناديني
بهدير، كان ينطق أسمي كما لا ينطقه الجميع، "يا هجير"، لم أكن أعلم هل
هذا بحكم السن أم ماذا؟!
ذكريات لا تنسى، تجاعيد يده الملموسة، نظارته
التي يشاهد بها التليفزيون، و سؤاله الدائم إن كان الفيلم المعروض الأن لفريد
شوقي؟ ... لهفته علينا إن أصابنا مكروه، "طقيته" البيضاء، سبحته و
حباتها الملونة، البالطو البيج الصوف فوق جلبابه، عكازه الذي يطرق به الباب ليطمئن
علينا أو يقضي يوماً معنا، فكان فور الإنتهاء من الغداء يهلل بصوته الحنون
"العصاية يا هجير، العيال لوحدهم"، و يأخذ عكازه و ينهي يومه فقط لأن
عماتي في البيت وحدهم.
منذ وفاته من ثلاث سنوات، انقطعت عادات
كثيرة، اكتشفت ان الشئ المتكرر ليس عادة فقط، بل إنه عادة و روح حنونة لا تهدأ و
لا تطمئن إلا إذا حدثت هذه العادة في نفس الوقت من العام، و أصبحت العادة في مارس
من كل عام، ألم و فراق، لم أبكيه أمام أحد و لا أعرف سبب ذلك! ربما تتحجر دموعي
حينها، و لكني متأكدة أن السبب ليس خجلاً من البكاء ذاته، حيرني السبب لدرجة أنني
حاولت أفرض على نفسي بكاؤه أمام الناس ...و لكن بلا جدوى، لعلها دموعا خلقت لتكون
عادة هجيره فقط.
لم يعد البيت كما كان، فقد هجر الدفء معه،
حتى في الأعياد، انكسرت العادة، إذا تجمعنا فينقصنا القلب الذي كان يحرس العادة و
يحميها، ينقصنا صوته الذي ينادينا اسمأ اسم، ينقصنا طلة وجهه علينا. أشتاق النظر
إلى شرفته كل صباح لأجده ينظر على الشارع الواسع، فكانت عادته الأستيقاظ مبكراً، و
الجلوس في الشرفة، و كانت أسعد لحظات حياتي حين تنبهني أمي و أنا ذاهبة إلى المدرسة،
"جدك أهو في البلكونة"، ترك الشرفة، و الدنيا بأكملها، أصبحت أنظر على
الشرفة كعادة تركها، و لكن النظرة مختلفة ليس بها نفس اللهفة ...
أفتقد طلته علينا، رائحته المسكية، و لمتنا
حوله، الغريب أني لا أحب زيارته في المقابر، عندما يشتد شوقي و حنيني، يطل علي في
حلم جميل، و لكن ما أفتقده حقاً يده الممدودة لتمحو هجير اللمة بعد غيابه، و ما
يغيب عني أيضاً من ثلاث سنوات صوته ينادي "هجير".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق