الغباء فيه سم
قاتل
"يا بنت يا
أم المريلة الكحلي يا شمس هلة و طلة من الجونة لو قلت عنك في الغرام قولة ممنوع
عليا و لا مسموحلي"
تدخل المترو و معها ابنتها الجميلة درين ، بعد ان فاقت من سحر منير و
جاهين و تأملاتها في مريلة درين، لم تكن كحلية مثل الاغنية، و لكن ما اروعها
التفاصيل. المترو مكتظ لا يوجد مكان حتى للوقوف، بدأت درين تتوتر، و يبدو الانزعاج
على ملامحها، و الأم تشرع في تهدئة الطفلة الصغيرة ، و تخرج هاتفها المحمول بصعوبة
من شدة الزحام، و تفتح لها مقطوعتها المفضلة "انا احب اقول الشعر في الحلوين
و الحلو اقول له يا حلو في عيونه ..."
تستمع درين و تدندن معه بلكنتها الخاصة، و اذ فجأة ينهال الصراخ على
الطفلة الصغيرة:
- "م تتلمي
يا بت هو احنا ناقصين صداع".
درين لم تتعود على الصراخ في
وجهها الا من ابيها الذي يعتبرها عار عليه و على اسمه، و لا ينعتها الا بالمتخلفة
او كما يقول "اخرة صبري." هذه المرة تستقبل الصراخ من نبرة صوت مختلفة،
و ملامح لم تراها من قبل، الأم تهمس في أدب الى السيدة التي تنهر ابنتها و تقول
لها:
:"لو سمحتي
دي حالات خاصة عندها متلازمة داروين."
و فجأة ينهال عليها السباب من حيث لا تدري و كأنها فتحت باب لا تستطيع
اغلاقه بمدافعتها عن طفلتها البريئة، فالسيدة تخاطب الطفلة كأنها شابة عاقلة برغم
كل ما يبدو على ملامحها،
"دارون مين
ياختي م تعدلي لسانك ...بنتك متخلفة تقعد في البيت، انما تجيباها تقرف الناس في
المترو ... ده كلنا راجعين من اشغالنا مش طايقين نفسنا ، اوعي كدة يا حبيبة امك
."
تتخبط في الطفلة و كأنها عمود نور و تكمل سبها للأم كأنها ارتكبت
جريمة، و هنا تزداد حالة التشنج عند درين فتخبط بقدميها في الارض، و تقوم الأم
بتهدئة الطفلة بكل ما في وسعها من حيل الأمومة، و لكن كل المحاولات لاستيعاب غضب
درين هذه المرة باءت بالفشل، و الشئ الوحيد الذي استطاع و لو قليلا استيعاب الطاقة
الزائدة لدارين، هو ذلك الطفل الصغير، هزيل الجسم الذي يبتاع الحلوى و يتنقل
كالعصفور الصغير هو و اخيه الاصغر بين أحضان السيدات في العربة المخصصة لهم. تحدق
به درين مما يلفت نظر أمها.
"أجيبلك حاجة حلوة يا
درين؟" لم تنتبة درين طفلة التسع سنوات لسؤال أمها، و يقترب الصغير متسللا من
بين الاحضان و يقف بجوارها و يمد يده و يصافح درين كأنه يعرفها من قبل، و يعطيها
قطعة من الحلوى، فتفتحها درين و تقسمها بينهما، و تطعمه في فمه.
"انت اسمك ايه؟"
يرد عليها بعيناه اللامعتان و شفتيه المتحجرة من قلة الطعام و الشراب،
"اسمي
كريم."
و ببراءة الاطفال يسألها: "و انتي؟"
و هنا يأتي صوت السيدة نفسها ثانية، "انت يا
واد يا بتاع الحلويات ...هات اتنين."
لا يكترث لها فهو ينتظر اجابة درين، فتعيد السيدة طلبها و لا يرد،
تنقض عليه و تشده من ذراعه.
"انت يا زفت. هو انا مش بنادي عليك!"
تتغير نبرة الطفل و يزيح يدها من على معصمه قائلا " مش هنبيع يا
ست اوعي كدة .... و الله لو كنتي الرزق الوحيد انهاردة م انا بايعلك."
تنظر اليه السيدة في حدة و
كأن رجل ناضج خدش كبريائها أمام الجميع، ثم تنهال على وجهه بصفعة قوية تجذب انظار
كل من في العربة. يشهق البعض من الصدمة،
لكن لا أحد يوقفها أو حتى يوبخها، يبدو ان من كان يحتاج الصفعة ليس كريم. تزداد
عصبية درين و كأن ذلك القلم يذكرها بصفعات أبيها التي تنزل عليها كالمطر، تتفهم
الام موقف طفلتها فتنحني اليها و تحتضن كتفيها الثائرتين، ثم تمد يدها ترتب على كتف كريم في حنان و كأنها
تقول له " لا تحزن لست وحدك يا عزيزي." تعبث في حقيبتها ثوان سريعة ثم
تمد يدها بمبلغ من المال.
"متزعلش يا حبيبي مش كل الناس تقدر تحس بوجع بعضها."
يرفض كريم ما تقدمه الام من
مال، طفل السبع سنوات يصدمها بالرد: "شكرا يا
أبلة انا بشتغل بعد مدرستي عشان اساعد أمي مش عشان حسنة من حد."
تنبهر الأم من رده و تعرض عليه حتي ثمن الحلوى التي اخذتها درين.
"دي هدية للعروسة الصغيرة ربنا يشفيها و يخليهالك."
يتركهما طفل السبع سنوات في محطة أحمد عرابي، و تقف الأم ثابتة تنظر
اليه. "ربنا يحميك يابني" .... تنسى
الأم محنتها و طفلتها و تتعلم درسا جديدا، عندما تتشابه الاوجاع يزداد الحب الصادق
بين طرفي الوجع ايا كان، فلا يتنافرا كطرفي مغناطيس على رغم كونهما من نفس الفصيل.
و في المحطة التالية يدخل احد
الباعة الجائلين، شاب في العشرينات، و لكن يبدو على ملامحه البغي؟؟؟؟، من الواضح
انه لبس هنا ليبيع من أجل رزق بضاعته. يتنقل في الزحام و يتخبط يمينا و يسارا في
العربة المكتظة بالسيدات و كأنه يتخبط عمدا.
ظل في نفس العربة محطتين بلا نزول، اصبحت العربة اكثر هدوءا و ليست مكتظة
كذي قبل، و اخيرا وجدت الأم و دارين مكانا يجلسا فيه، و هدأت دارين الى حد ما. اما
ذلك البائع، فعلى الرغم من ان العربة اصبحت خالية نوعا ما، إلا انه كان يتفنن في
الميل يمينا و يسارا الي ان وصل الى مرحلة التحرش بفتاة لم تتم عقدها الثاني بعد.
فلم تطق الفتاة على يده على جسدها و
أمسكتها في تحد جرئ و بدأت في الصراخ. إنتبهت العربة كلها. لكن الصمت الذي خيم
عليهم بعد صفعة كريم و اهانة دارين أصابهم جميعا بداء الخرس مرة أخرى. إلا ذلك
الصوت الذي إنطلق في فجاجة من قبل.
"م تلمي نفسك يا بت ... هتفضحي نفسك ...
هو عمل ايه يعني... م الدنيا زحمة ...."
دارين في عالم اخر .. تشد انتباه امها و تعرض لها ما رسمته في حصة
الرسم هذا الصباح: زجاجة دواء مكتوب الى جوارها "الدواء فيه سم قاتل".
"الدوا فيه سم يا ماما ...عايزين نغيره عشان نلحق .. زي الحكمدار
ما لحق أحمد بتاع دير النحاس."
تبتسم الأم و تضم درين الى صدرها، و تقول
في نفسها: "عقول عايزة تتغير ... عشان نلحق
لازم نتخلص من الغباء. الغباء فيه سم قاتل"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق