فينوس في سوق
الجمعة
(عن "يمامة
خضراء بكعب محني" لفؤاد قنديل)
في مجموعته "سوق الجمعة"، قصد فؤاد
قنديل تحقيق الإيقاع الزماني و المكاني و الحسي، سارت المجموعة على نهج وحدة
مكانية و زمانية توضح حب الكاتب الشديد ليوم الجمعة، و تبرز معانيه المختلفة كما
قدمها في بداية المجموعة، رغم تعدد القضايا التي تناولتها المجموعة إلا أنها تعد
مثالا واضحا على الوحدة العضوية, و تقترب بهذه الوحدة إلى مسمى الرواية. في أزقة و
أركان سوق الجمعة، نحت قنديل حكايات و قضايا مختلفة، من الكادحين إلى الأغنياء و
المتعلمين، رسم تفاصيل المكان، و عرض العلاقة بين الرجل و المرأة بصور مختلفة. كما
تنوع الأسلوب السردي ليجذب انتباه القارئ تارة بالضمير الغائب، و تارة أخرى بضمير
المتكلم، الذي يجعل القارئ يشعر أنه جزء من ذلك السوق و قضاياه، و وصلت الضبابية
السردية ذروتها في لوحته "يمامة خضراء بكعب محني"، حيث قصد الضبابية في
البداية حتي يلعب القدر و الرغبة لعبتهما في النهاية في الربط و التواصل بين الرجل
و المرأة.
استطاع قنديل أن ينسج خيوطا للربط بين ملامح
الحب الصوفي و النزعة المادية، فظهرت النزعة الصوفية في حب الشاب لليمام و وصفه
له، حيث السمو و الإعتزاز بالنفس و "تجنب الزحام و العنف و الصخب"، و
دعم قنديل تلك النزعة بنفحات أهل البيت، و القوة التي تستمدها الفتاة للسكن
جوارالسيدة عائشة و"بركاتك يا ستنا". أما الملامح المادية، فقد قصد
قنديل توضيحها بإقحام شخصية رئيسة من لوحة "محمد جرجس"، و أثبت بذلك أن
"المال يعمي صاحبه"، تناسب ذلك مع البيئة المكانية، و معاناة الناس، و
احتياجهم، و عزة نفسهم في ذات الوقت، فالفتاة ترفض ابن محمد جرجس، و "لا يسيل
لعابها" لمجرد أنه غني، فيكفيها النزعة الصوفية أو الفلكلورية المتمثلة في
"نفحات الست".
ظهر على سطح هذه اللوحة ابن محمد جرجس كشخصية
ثانوية، لا لتوضيح النزعة المادية فقط، بل إنه ساهم أيضاً في رسم صورة مقابلة
لصورة المرأة "الجميلة السمينة الطيبة الجاهلة"، فوجوده في القصة وضح
للقارئ الوجه الأخر، و كسر القالب الأول. لم تكن هذه المقابلة الوحيدة في لوحة
"يمامة خضراء بكعب محني"، فصورة اليمامة في بداية المشهد، قابلتها صورة
الفتاة فيما بعد، حيث ظهر "الصوت الرخيم" عندما سأمت الفتاة مطاردة
الشاب و "هبت بغضب مكتوم"، و اتضح أيضاً "الاعتزاز بالنفس" في
عبارات تلتحم مع بيئة السوق، حيث "نهاره أسود من قرن الخروب" و
"الصندل جاهز في رجلي". كما مزج قنديل بين الوصف الفلكلوري الصريح الذي
يتناسب مع البيئة الشعبية المحيطة، و بين النظرة الخاصة لليمامة الخضراء و رؤيتها
لذلك الشاب، "فالتايير المفتوح"، و "الهضاب المرمرية"، و
"الشفاه الدسمة التي تحمل دعوة ملحة للقبل"، وقفوا في مواجهة "غضب
الفتاة المكتوم" و "نظرتها له في إحتقار مشكوك في جديته"، و من ثم
اتضح للفتاة ان "عيناه غير فاجرتين"، و "لا يحدق فيها
بشهوانية"، و بهذا تضفر الوتر الأول في العلاقة المرسومة بين الرجل و المرأة،
ألا و هو الرغبة و"شوق الانتظار" و "دفء التحقق الإنساني".
بعدما تحقق الوتر الأول، جاءت ضبابية القدر
لتتداخل مع الضبابية السردية، و تشكل باقي الأوتار، فقد فرض "جنون الطبيعة"
سطوته على الموقف، و أصبحت الفتاة "في أمس الحاجة إلى العون" لما تحمله
من حقائب، "عيب عليكي يا مطرة و الشمس طالعة"، ذلك الجنون الطبيعي جعلها تخلت عن
العناد و المكابرة، فشعر هو أن حبه للمطر "لم يذهب هباءاً".
لم يكتفي قنديل بالفلكلور الشعبي بل اتجه
ايضا إلى الرموز الفلسفية و الميثولوجيا الإغريقية، و نجح في الربط بين فينوس
_التي ربما لا تتناسب مع البيئة المكانية_ و ذات الكعب المحني، "فالجسد
المحموم بوهج الشهوة" تخلص من "الاحتقار و النظرات الغاضبة" حتى
"شعرت بالنشوة". و في النهاية نجحت فينوس في دورها المرسوم لها في سوق
الجمعة، و نقلت "مواهبها التي لا زالت متمتعة بالطاقة السحرية" إلي ذات
الكعب المحني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق